تغيير دراماتيكي تشهده مصادر صناعة القرار السياسي والبرلمانات ومؤسسات رئاسة الوزراء في أوروبا، وبنظرة تأمل فإن الحكومات في معظم الدول الأوروبية في يومنا هذا، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، تسيطر عليها أحزاب يمينية متطرفة بصبغات مختلفة، فهناك أحزاب قومية متعطشة لأمجاد الماضي، وأخرى قومية شعبوية، وكذلك محافظة متشددة ذات جذور فاشية جديدة، وغيرها من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي باتت تحظى بشعبية لا يستهان بها.
فعليا إيطاليا، التي تعد ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي هي من قادت هذا التغيير المثير على يد جورجيا ميلوني، وهي رئيسة حزب له جذور فاشية جديدة. وفي فنلندا، بعد ثلاثة أشهر من المباحثات والجدل، انضم القوميون اليمينيون المتطرفون الفنلنديون مؤخرا إلى الحكومة الائتلافية.ويدعم الحزب الديمقراطي السويدي المناهض للهجرة والتعددية الثقافية، وهو ثاني أكبر حزب في البرلمان السويدي، الحكومة الائتلافية اليمينية هناك.وفي اليونان فازت، ثلاثة أحزاب يمينية متشددة بعدد كافٍ من المقاعد لدخول البرلمان، بينما في إسبانيا، فاق حزب فوكس القومي المثير للجدل كل التوقعات في الانتخابات الإقليمية الأخيرة- وهو أول حزب يميني متطرف ناجح في إسبانيا منذ وفاة الديكتاتور الفاشي فرانسيسكو فرانكو في عام 1975. كما أن هناك حكومات متطرفة ذات "ميول استبدادية" في بولندا والمجر… ملحوظة: جميع التعريفات السابقة جاءت علي لسان النخب السياسية هناك.
والقائمة تطول وتطول. ويشمل ذلك ألمانيا، التي لا تزال حساسة للغاية بشأن ماضيها النازي.وتشير استطلاعات الرأي هناك الآن إلى أن حزب البديل اليميني المتطرف قد يكون متفوقا على حزب المستشار شولتز، الاشتراكي الديموقراطي أو في أسوأ الأحوال متوازيا معه. وقد فاز مرشح حزب البديل من أجل ألمانيا بمنصب قيادي محلي لأول مرة. الأمر الذي وصفه الحزب الاشتراكي الديمقراطي بأنه "قنبلة سياسية مدمرة".
اما فرنسا فهي تشهد حاليا أوقاتا عصيبة.وبينما يعاني الرئيس ماكرون بشكل واضح للسيطرة على الوضع، فإن أبرز خصومه السياسيين من اليمين المتطرف، ألا وهي مارين لوبان - التي تقدم رسالة متشددة أمنيا ومناهضة للهجرة - وهي الأقرب لتشكيل الحكومة وربما الفوز بمنصب الرئيس مستقبلا. وتكبد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هزيمة ثقيلة، في الجولة الأولى والثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة. وكان يراهن على حدوث انقسامات في معسكر اليسار والرفض الشعبي لليمين المتطرف ويطمح للحصول على الأغلبية المطلقة عبر قراره حل البرلمان، إلا أن معسكره حل ثالثا بعيدا عن "التجمع الوطني" المتصدر والذي بات على أبواب السلطة. نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة قد تحمل عواقب وخيمة على البلاد ليس فقط على فرنسا ولكن على مجمل توجهات الاتحاد الأوروبي .وبعد أن مُني ماكرون بهذه الهزيمة الانتخابية والسياسية المدوية، بات ينبغي عليه تفادي أن يذكره التاريخ الفرنسي على أنه ذلك الرئيس الذي سلم مفاتيح الحكم إلى اليمين المتطرف.
العديد من السياسيين البارزين في أوروبا خلال السنوات الأخيرة استعاروا شعارات أو مواقف من اليمين المتطرف، على أمل سلبه أنصاره. لكنهم في واقع الأمر ساعدوا في جعل اليمين المتطرف يبدو أكثر انتشارا.بينما في الوقت نفسه، تحرك عدد من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا بشكل متعمد نحو الوسط السياسي، على أمل جذب المزيد من الناخبين الوسطيين. خذ المواقف تجاه روسيا على سبيل المثال. عدد كبير من الأحزاب اليمينية المتطرفة - مثل حزب الرابطة في إيطاليا، ومارين لوبان الفرنسية، وحزب الحرية النمساوي فار، التي تربطها علاقات وثيقة تقليديا مع موسكو.أصبح الأمر يسبب لها الكثير من الحرج بعد غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا، مما دفع قادة تلك الأحزاب إلى تغيير خطابهم.
تصاعد اليمين المتطرف جاء بالفعل مع اعلان الاتحاد الأوروبي. فبعد تصويت المملكة المتحدة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، كانت بروكسل تخشى "تأثير الدومينو" (حيث تتساقط باقي أحجار اللعبة تباعا بعد سقوط الحجر الأول)، وأن يصبح هناك فريكسيت (مغادرة فرنسا للاتحاد الأوروبي)، وديكسيت (مغادرة الدنمارك للاتحاد الأوروبي)، وإيتاليكسيت (مغادرة إيطاليا للاتحاد الأوروبي) والمزيد.
كان لدى العديد من الدول الأوروبية أحزاب شعبوية متشككة بشدة في الاتحاد الأوروبي ناشطة بشكل جيد في ذلك الوقت، ولكن على مر السنين شعرت هذه الأحزاب بأنها ملزمة بالتوقف عن التحريض على مغادرة الاتحاد الأوروبي، أو حتى التوقف عن التداول بعملته "اليورو".بدا هذا الأمر متطرفا للغاية بالنسبة لكثير من الناخبين الأوروبيين. لقد نظروا إلى التأثير الاجتماعي والسياسي - بغض النظر عن التأثير الاقتصادي المثير للجدل - الذي أحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في البلاد، وخلص الكثيرون إلى أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في عالم بات يتسم بحدوث تقلبات سريعة.
هناك الكثير من العوامل التي ينبغي أخذها في الحسبان؛ جائحة كوفيد، والوجود بجوار روسيا التي لا يمكن التنبؤ بأفعالها، والقلق بشأن الصين، وصعوبات ارتفاع تكاليف المعيشة - إذ لا تزال ملايين العائلات الأوروبية تعاني من الآثار اللاحقة للأزمة الاقتصادية لعام 2008. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الاتحاد الأوروبي أكثر شعبية بين الأوروبيين في الوقت الحالي مما كان عليه منذ سنوات. وحتى الآن تتحدث الأحزاب اليمينية عن إصلاح الاتحاد الأوروبي بدلا من تركه.
ولكن يبدوا ان احد اهم اسباب تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا يرجع إلى حد كبير إلى عدم الرضا عن التيار السياسي السائد خلال السنوات العشر الماضية التي شعر فيها المواطن الأوروبي ان الولايات المتحدة الامريكية خذلته ، وبات واضحا بالنسبة له ان واشنطن استفادت من أزمات التي تعرض لها الاتحاد بدلا من تقديم يد العون لهم، واقرب مثال علي ذلك، عندما قررت روسيا خفض صادرات الغاز الي دول الاتحاد كان من المنتظر ان تكون واشنطن هي البديل لتعويض خسائرهم، لكن لم يحدث، اما الامر الأكثر غرابة كان التقارير التي كشف النقاب عتها مؤخرا وأكدت ان المخابرات الامريكية كان لها يد في تفجير خط الغز الروسي "السيل الشمالي" بعد الهجوم علي أوكرانيا لمعاقبة الروس! حتي ان نايجل فاراج زعيم حزب الإصلاح البريطاني اكد قبل ايام إن توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي شرقا استفز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ودفعه إلى غزو أوكرانيا.
وأثارت هذه التصريحات التي جاءت في مقابلة أجرتها معه هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) انتقادات شديدة من مختلف الأطياف السياسية البريطانية قبل الانتخابات والتي فاز فيها حزب الإصلاح المنتمي لليمين بملايين الأصوات.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة.. هو..كيف ولماذا تتجه الشعوب الأوروبية الي اليمين المتطرف؟ وهل هذا تغيير فعلي في المزاج العام الذي عاني كثيرا مرة من تداعيات الوحدة الأوروبية، ومرة بسبب تحمله وحيدا كلفة الحرب الروسية علي أوكرانيا التي اشتعلت بسبب الاستفزازات الادارة الامريكية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
المؤكد ان اليمين المتطرف من وجهة النظر الأوروبية سيكون له الكلمة الفصل في تحديد المسارات السياسية الداخلية والخارجية لدول الاتحاد، وبالطبع سينعكس هذا جليا علي مجمل قضايا المنطقة العربية وشمال افريقيا التي تعد الممر الاستراتيجي للهجرة غير الشرعية التي يحسب لها الأوروبيين الف حساب.